حول الديمقراطية .. استاذ تاج السر عثمان

لئن كان التاريخ الحديث قد شهد التكريس المنهجى والمؤسَّسى لنظام الحكم (الديموقراطى الليبرالى) فى أوروبا والغرب عموماً منذ حوالى ثلاثة قرون ، فإن شعبنا قد عرف أيضاً نظام (الشورى) ، سواء لدى ملوك كوش القدماء الذين كان ينتخبهم زعماء القبائل وملوك الفونج وشيوخ العبدلاب ، وكان هؤلاء أنفسهم يُختارون بذات الطريقة ، أم فى تعاليم الاسلام حالَ دخوله لاحقاً إلى البلاد. لذا يخيب مسعى كل من يحاول الإيهام بأن (الديموقراطية) نظام أجنبىٌّ عنا ، جملة وتفصيلاً ، أو انه لا يصلح لنا.على أنه يلزمنا ابتداءً أن نؤكد عدم وجود أى أوهام لدينا بشأن منشأ المفهوم الحديث لهذه (الديموقراطية الليبرالية) فى الفكر السياسى المعاصر : ……………..

1/ (الليبرالية) تبلورت أصلاً فى أوروبا القرنين 17 و18 كبرنامج أيديولوجى للطبقة البرجوازية الصاعدة ، تعبيراً عن حاجتها الاقتصادية ، آنذاك ، لتحطيم حواجز النظام الاقطاعى الذى لم يعد يناسب مقتضيات حركة رأس المال والسلعة وحرية اختيار المهن وانتقال الأيدى العاملة المطلوبة بإلحاح لتطور الصناعة. لذلك قام المفكرون الليبراليون ، وقتها ، بتدمير الأسس النظرية للنظام القديم القائم على النبالة واحتكار الأرض ، وبشروا بمجتمع جديد يمثل مصدر الثروة فيه رأس المال وحرية السوق وخيارات المنفعة. 2/ أما (الديموقراطية) فقد انطرحت معرفياً قبل قرون من (الليبرالية) لتدل على شكل الحكم الذى يتسم بإقرار الحريات والحقوق والمشاركة والمساواة بإزاء سلطة الدولة ، والذى تطلعت إليه المجتمعات الانسانية طوال تاريخها السياسى ، منذ أقدم التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية عند الأسبرطيين والبيزنطيين ، أو عند الاغريق الذين يعود المفهوم بجذره الغالب إلى تلخيصاتهم الفلسفية على أيدى سقراط وأفلاطون وأرسطو ، من جهة ، وإلى تطبيقاتهم الأثينية بالأخص من الجهة الأخرى. هكذا شهدت العصور القديمة أشكالاً ملموسة (للديموقراطية) يتوقف مضمونها على طابع نظامها الاجتماعى. 3/ لكن (الليبرالية) قاومت (الديموقراطية) فى البداية ، قبل أن تعود لاستيعابها من بوَّابة اضطرارها لتوسيع دائرة الحريات والحقوق لتشمل كل المواطنين الذين احتاجت لدعمهم فى ثورتها على الاقطاع. سوى أن هذا الاستيعاب لم يقع نفرة واحدة ، وإنما بالتدريج. فحق التصويت ، مثلاً ، ظل قاصراً على الطبقات الرأسمالية العليا وحدها حتى الثلث الأول من القرن التاسع عشر. ولم تتمكن الطبقة الوسطى فى إنجلترا من التمتع به إلا فى إثر الاصلاح الانتخابى لسنة 1832م. أما العمال فلم يعترف لهم به ، إلا فى نهاية القرن التاسع عشر ، وأما النساء فقد كان عليهن الانتظار ، للحصول عليه ، حتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين (1920م فى إنجلترا ـ 1928م فى أمريكا).الشاهد أن (الديموقراطية الليبرالية) مفهوم برجوازى ما فى ذلك شك. ولدت (الليبرالية) أولاً كمفهوم اقتصادى بحت ، ثم ما لبثت أن (تمقرطت) سياسياً فى سياق تطور الثورات البرجوازية ، حيث ارتقت من مستوى (الحريات الاقتصادية) للطبقات الرأسمالية إلى مستوى (الحريات السياسية) للجماهير. من هنا نتج التداخل بين المفهومين ، ربما لكون السيرورة التاريخية (لليبرالية) قد اقترنت أكثر من غيرها (بالديموقراطية). لكن مع انتصار الرأسمالية الحاسم على الاقطاع ، فإن (الديموقراطية الليبرالية) التى تحولت إلى سلاح فى أيدى الجماهير لانتزاع حرياتها وحقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية أضحت هى نفسها موضع عداء الطبقات والنخب التى يقترن لديها إقرار هذه الحريات والحقوق بتهديد الأساس الاقتصادى السياسى الذى يضمن لها تلك الامتيازات. ***تلك هى الزاوية التى نفذ منها حزبنا ، منذ بواكير تأسيسه على أيام النضال ضد الاستعمار ، إلى موضوعة (الديموقراطية الليبرالية) بجذرها الناشب فى معنى (الحريات العامة) و(الحقوق الأساسية) للجماهير ، والتى أثبتت دروس التاريخ الماثلة أنها أنسب ما يناسب منظومة التعدد السودانى ، متجاوزاً فى ذلك ميراث النقد الماركسى الكلاسيكى لها ، خاصة وأن نشأة الحزب نفسها كانت قد وقعت ، خلال النصف الثانى من أربعينات القرن المنصرم ، فى قلب حركة جماهيرية تمحورت ، على تعدُّد أشكالها شديدة الثراء والتنوع ، حول قضايا (التحرر) الوطنى وتأسيس نظام (ديموقراطى) للحكم. ولكن خبرة الحزب التاريخية فى التنظير والعمل على هذا الصعيد لم تنسرب بمثل هذه السلاسة التى قد توحى بها العبارة ، بل مرَّت بشتى صنوف النتوءات والمنعرجات التى أسبغت على هذه الخبرة طابعاً تركيبياً شديد الخصوصية والتعقيد. فعلى حين بقيت هذه الموضوعة تمثل ، بشكل ثابت ، أحد أهم المطلوبات الاستراتيجية المطروحة فى أفق المشروع الاشتراكى للحزب ، ظلت ملتبسة أيضاً ، فى فترات مختلفة من هذا التطور ، بمفاهيم (الديموقراطية الاشتراكية ـ الشعبية ـ الجديدة ـ الثورية) .. الخ. ومن أهم عوامل ذلك:1/ الأثر الملموس للنموذج الاشتراكى الذى بقى ماثلاً وضاغطاً ، ردحاً من الزمن ، وبالأخص التجربتين السوفيتية والصينية ، على حركة اليسار وحركة التحرر الوطنى العالمية عموماً