عبد الحميد مهري”: قلب ينبض بالوطنية

يؤكد عبد الحميد مهري أن كتابة التاريخ بحاجة إلى نظرة جديدة تنطلق من الحقيقة التاريخية، التي تخدم المصلحة العامة، والقراءة الصحيحة للتاريخ ضرورية، لأن تاريخنا مازالت تتحكم فيه الأهواء السياسية، و يرى عبد الحميد مهري بالمناسبة أن جبهة التحرير الوطني في حاجة أكيدة لإعادة النظر في كثير من القضايا والمواقف التي كيفت مسيرتها، وأثرت تأثيرا بالغا في الحياة الوطنية، و ربما هي مناسبة للإدلاء بمواقف الرجل “الرجولية” و هو يحي عيد ميلاده الـ: 84 المصادف للثالث من شهر افريل
عبد الحميد مهري اسم نوفمبري ضارب في أعماق تاريخ الجزائر و قلعتها الثورية، ولد في 03 أفريل 1926 بالخروب التابعة لمدينة قسنطينة ،بدأت مرحلة دراسته و تكوينه على يد الشيخ عيسى بن مهيدي عمّ العربي بن مهيدي الذي كان قاضيا بقرية وادي الزناتي آنذاك، ثم انتقل إلى تونس و انتسب إلى جامعة الزيتونة، انخرط في صفوف حزب الشعب الجزائري و عمره لا يتجاوز 16 سنة، ثم حركة انتصار الحريات الديمقراطية ،و ساهم في تحرير جريدة “المنار” وجريدة “صوت الجزائر” قبيل اندلاع الثورة، تعرض مهري للعديد من الاعتقالات ضمن السياسيين المعروفين بالميول لوطنهم منهم يوسف بن خده، و أحمد بوده و غيرهم، وكانت له اتصالات مع بالمسؤولين الكبار للثورة مثل كريم بلقاسم و عبان رمضان ومحمد خيدر عندما التحق في نهاية 1955 بالوفد الخارجي لجبهة التحرير بالقاهرة ومنها إلى عواصم عربية بتمثيل الجبهة بسوريا، لبنان، الأردن والعراق، يصف عبد الحميد مهري كيف كان المجتمع الجزائري مفككا الأوصال قبل الثورة و كيف كانت هياكل الدولة منعدمة، ويضيف مهري في وصف الواقع الجزائري أنه كانت فيه روح المقاومة ، و من هنا عرف عبد الحميد مهري بمشروع يسمّى باسمه ، هو مشروع مهري للرد على مشروع ديغول..

بعد الاستقلال شغل منصب عضو في المجلس الوطني للثورة الجزائرية ، ثم في لجنة التنسيق و التنفيذ ، عند تشكيل الحكومة المؤقتة شغل منصب وزير شؤون شمال إفريقيا ، ومنصب وزير الشؤون الاجتماعية و الثقافية و الإعلام، كما مثل عبد الحميد مهري الجزائر و جبهة التحرير الوطني في عدة مؤتمرات و منها مؤتمر الأحزاب المغاربية، و هو على رأس أمانة حزب جبهة التحرير الوطني مورست عليه عدة ضغوطات عندما تبنى منطق المعارضة و أرادت جبهة التحرير الوطني أن تتبنى التغيير، و بشكل أدق تغيير نظام الحكم إلى نظام ديمقراطي، و أن تستقل هي عن الجيش و لكن أطراف كثيرة في المعارضة حاولت تركيز النقمة ضده ، لا لشيء لأنه كان يفرق بين جبهة التحرير الوطني كمشروع و بين الجبهة كجهاز، و يرى مهري أن الآفلان اليوم يتخبّط في مشكلة أشخاص وهو بحاجة إلى إعادة نظر سياسية..

يرى عبد الحميد مهري أن جبهة التحرير الوطني في حاجة أكيدة لإعادة النظر في كثير من القضايا والمواقف التي كيفت مسيرتها، وأثرت تأثيرا بالغا في الحياة الوطنية، لكن الطريق الموصل لذلك لا يمر بالميادين التي تذكى فيها الصراعات والخصومات الشخصية على حساب الأفكار والبرامج والمواقف السياسية الواضحة، فأي حزب في نظر مهري لا يمكنه أن يهيئ المستقبل إذا لم يقرأ ويدرس ويستخلص تجارب الماضي..، و ربما الرسالة التي وجهها عبد الحميد مهري الأمين العام الأسبق لحزب جبهة لتحرير الوطني إلى الأمين العام الحالي للحزب عبد العزيز بلخادم خلال المؤتمر التاسع للأفلان المنعقد مؤخرا تشير إلى ذلك ..، كان حلم السيد عبد الحميد مهري أن تتاح الفرصة لجميع المناضلين ليناقشوا بصراحة وعمق التجارب التي عاشتها البلاد منذ الاستقلال في كل ما يتصل بنظام الحكم وتسيير الشؤون العامة، و كان على استعداد تام لإلغاء كل ارتباطاته للمساهمة في مثل هذا النقاش، لأن العودة لهذا الماضي القريب، بعد فاصل زمني طويل، كما يراه مهري قد يتيح تناولا أكثر موضوعية للقضايا الأساسية التي ما زالت قائمة، وينير طريق الوصول إلى الحلول التي تتطلبها على ضوء الممارسات وأنماط السلوك التي أفرزتها السياسات المنتهجة، و لكن الحلم لم يتحقق مثلما لم يتحقق حلمه في أن يكون يوم 17 سبتمبر ,1958 عيدا أو يوما للجمهورية، و لكن المشروع جرى عليه تعتيم كبير لأسباب ما تزال غامضة..

الاستمرار والمثابرة في طرح القضايا واجب وطني
يعتبر عبد الحميد مهري أن الاستمرار والمثابرة في طرح القضايا واجب وطني، فكان من بعيد يتابع قضايا الساعة و هموم وطنه و مشاكل أبناء جلدته÷ فكانت له مواقف كثيرة حول قضايا الفساد و المفسدين من داخل و خارج البلاد، إذ لا يعتبر عبد الحميد مهري الفساد قضاء محتوما، بل هو تحصيل حاصل لنظام حكم غير سليم، نظام غير قادر على منع حدوث الفساد، الفساد موجود في كل المجموعات البشرية، لدرجة تجعله غير مطمئن للوضع الإقليمي للبلاد..

من مواقف الرجل انه دعا إلى فتح المجال السياسي والتعامل معه والنفاذ إلى المشاكل الأساسية التي يطرحها ومقابلتها بالحلول، فعندما تطرح عدة قضايا ولا يصل فيها الإنسان إلى حلول ترضي الجميع هذا يبدأ الصراع، و كان مهري يرى أن نشأة الحكم كانت ناتجة عن تراكمات عديدة دون استعمال النقد والتمحيص للتجارب الماضية، و كان دوما يدعو إلى التغيير و أن ينصب هذا الأخير على نظام الحكم نفسه، ليس فقط لأنه لم يعد ينسجم مع حاجات المجتمع من الناحية الأخلاقية والسياسية، ولكنه عاجز عن حل مشاكل البلاد وعاجز بالأخص عن مواجهة التحديات الكبرى التي تنتظره، و يعطي عبد الحميد مهري رؤية واضحة لطريقة بناء الدولة، وبناء الدولة في نظره يتطلب إشراك جميع الجزائريين، و أن تقوم الدولة على أساس ديمقراطي يتيح الاختلاف في تسيير المجتمع، و ليس على مقاس تيار معين وشخص معين أو مجموعة معينة..

يؤكد عبد الحميد مهري أن كتابة التاريخ بحاجة إلى نظرة جديدة تنطلق من الحقيقة التاريخية، التي تخدم المصلحة العامة، والقراءة الصحيحة للتاريخ ضرورية، لأن تاريخنا مازالت تتحكم فيه الأهواء السياسية، فحول مفاوضات إيفيان يؤكد مهري أن هناك مشكل لم يحل وهو بعث الدولة الجزائرية 19 سبتمبر 1958 الذي تم فيه الإعلان عن الحكومة المؤقتة التي مارست دورها في معاهدات دولية ، والمشكل أن فرنسا لم تعترف بالدولة الجزائرية في مفاوضات “ايفيان” باعتبار أن الوفد وفد جبهة التحرير الوطني ولم يكن يمثل الدولة الجزائرية في الوقت أن المفاوض الجزائري جاء على اعتبار أنه يمثل الدولة الجزائرية، و لهذا و من الواجب الوطني يرى عبد الحميد مهري أن التعتيم عن هذه الأحداث مضرا بالذاكرة الوطنية، و الرصيد التاريخي لبلادنا، و يرى عبد الحميد مهري بالمناسبة أن جبهة التحرير الوطني في حاجة أكيدة لإعادة النظر في كثير من القضايا والمواقف التي كيفت مسيرتها، وأثرت تأثيرا بالغا في الحياة الوطنية..

وعلى الصعيد الخارجي لعبد الحميد مهري رأي آخر في العديد من القضايا العربية ، فهو يرى أن الشعوب هي التي تقيم مواقف حكوماتها، و أن الصمت العربي من دون شك يدل على عجز كبير لا يمكن إخفائه، يقول عبد الحميد مهري في إحدى تصريحاته أن الساحة العربية اليوم تسيطر عليها دول التطبيع، المدعمة من أمريكا التي تريد أن تتحكم في القرار العربي، وهي من تقف ضد كل محاولات الخروج من المأزق العربي الحالي، وهي من ساهمت في تدمير العراق من خلال مد الجيش الأمريكي بالمعلومات والدعم اللوجيستيكي المحلي، وهي من تعمل على تشتيت الصف الفلسطيني، ما يؤكد عليه مهري هو أنه إذا ظلت الأمور على حالها فإنها ستتجه نحو الأسوأ، و ربما الجميع على معرفة بمواقف الرجل من القضايا العربية و على رأسها قضية سورية و السودان، و ما يحدث في العراق و فلسطين، دون أن ننسى قضايا المغرب العربي..

حقا لقد كان الرجل قلبه ينبض بالوطنية و الإخلاص لحزبه و بني جلدته في الداخل و الخارج، حيث وصفه الأديب عبد العزيز غرمول بالرجل الواضح لمواقفه و كلماته ، و أنه رجل صارم وجاد، قوي الذاكرة وواع بحركة التاريخ، و هو رجل سياسي من طراز رفيع، يعرف كيف ينتقد، وكيف يختلف، وكيف يقاوم، و سيقول التاريخ عن هذا الرجل، دون شك، إنه عملة نادرة، فقد عاش نظيفا في زمن اتسخت فيه النوايا، وعاش واعيا في زمن الضلالة والجهل، وعاش على تاريخه وفي مستوى تاريخه، حيث عمّ بيع التاريخ في أسواق الأكاذيب هكذا قال غرمول..